مفهومه :
الحوار هو إحدى السمات الحضارية التى ينتقل بها الإنسان من حالة العزلة والتوحش ، إلى الحياة المدنية والاجتماعية . وهو فى نفس الوقت وسيلة التفاهم بين الأفراد والشعوب من أجل تبادل المصالح وتحقيق المنافع. وعندما يفشل الحوار بين الأفراد تحدث القطيعة ، كما أنه عندما يتوقف بين الدول تقع الحروب . وليس صحيحًا ما يقال إن الحرب هى أحد أنواع لغة الحوار ، فليس فى الحرب حوار على الإطلاق ، لأنه لا يوجد حوار فى حال القتل والتدمير ، وإنما هى غريزة الغضب ، حين تعبر عن نفسها بصورة وحشية ، وهذا ما يجعلنا نقرر أن الحوار مرتبط بالعقل والمصلحة والعمران ، وأنه بقدر ما يكون هناك حوار متصل بين الدول يبتعد شبح العدوان والتخريب .
ومن ناحية أخرى فإن استمرار الحوار فى المجتمع ، وتعدد مستوياته ، وتنوع موضوعاته – تعد علامة صحية على حيوية هذا المجتمع ، واتجاهه إلى مزيد من التقدم، وتحقيق الازدهار . وفى المقابل من ذلك ، فإن المجتمع الخالى من الحوار تسوده العزلة ، وينخر فيه الضمور ، على الرغم مما قد يبدو على سطحه من الهدوء والاستقرار .
يعتبر أسلوب الحوار والمناقشة، من ضمن استراتيجيات التعلم النشط ، التي يعتمدها المعلم، من أجل تحقيق هدفه التعليمي، في درس ما، ولعلها من بين أهم الطرق التعليمية، التي تخلق جوا من التفاعل التربوي الإيجابي بين الطلاب ومعلمهم ، من خلال إشراكهم في الدرس، خصوصا إذا تم اعتمادها بأسلوب مشوق بعيدا عن النمطية .
دوائر الحوار :
للحوار دوائر متعددة . تبدأ من دائرة حوار الإنسان مع نفسه . والواقع أن هذا الحوار لا يتوقف أبدًا . وهو يتجلى بصورة واضحة قبل اتخاذ القرارات ، وكذلك بعدها. وهذا هو المستوى الواقعى الذى تترتب عليه نتائج عملية فى الحياة اليومية. ولا شك أن درجة الثقافة والوعى بالبيئة المحيطة إلى جانب الذكاء الشخصى : تعدّ عوامل هامة فى جودة اتخاذ القرارات المناسبة فى مختلف المواقف التى يتعرض لها الإنسان.
لكننا ينبغى أن نتنبه إلى أن حوار الإنسان مع نفسه قد ينتقل إلى مستوى خيالى خالص ، وهو ما يطلق عليه عادة أحلام اليقظة ، أى الحوار مع النفس حول أمور غير قابلة للتحقيق . وليس هذا المستوى مرفوضَا كله ، بل إنه مطلوب بجرعات محددة ، يكون الغرض منها حفْز صاحبها إلى مزيد من العمل وبذل الجهد ، أما خطورته فتتمثل فى الاستنامة له ، وإدمانه على نحو مرضى ، والأكثر خطورة أن الحوار يتحول من الحديث بين اثنين إلى حديث من طرف واحد ، وإصغاء كامل من الطرف الآخر (الإنسان ونفسه) .
وتتمثل الدائرة الثانية فى حوار الإنسان مع أفراد أسرته ، وأصدقائه ، وأهم ما يميز هذا النوع هو الحرص على مصلحة الإنسان ، وشيوع روح المودة ، وتناول مختلف الموضوعات بدون حرج ، لكن أهم ما يفسده هو الاقتصار على سماع الرأى الذى يتمشى مع ميول الإنسان وأهوائه ، ونفوره من الرأى الذى يتعارض معها . هنا ينقطع الحوار ، ولا يبقى إلا صوت واحد ، هو الصوت الذى يريد أو يرغب الإنسان فى سماعه. وعند التحليل الأخير ، لن يكون هذا الرأى إلا رأيه هو ! إن الحوار الحقيقى يحتاج إلى احتكاك عقول متباينة بعضها ببعض ، وهذا الاحتكاك هو الذى يولد وجهات النظر المختلفة ، والتى لا تخلو كل واحدة منها من فائدة . وكما قال (بول فاليرى) بحق : "علينا أن نغتنى بخلافاتنا" والمقصود أن نستفيد من الآراء الأخرى باعتبارها وجهات نظر للموضوع أو للمشكلة المطروحة من زوايا متعددة ، قد تتيح لنا مالا تتيحه النظرة الواحدة من منظور واحد .
أما الدائرة الثالثة فتتمثل فى حوار الإنسان مع زملاء العمل . وهنا ينحصر الحوار فى مجال أو مجالات محددة ، ويحركه فى الغالب حب الغلبة ، والمنافسة ، لكنه عندما يخلو من المطامع والأغراض الشخصية ، وينصب على مصلحة العمل ، وتحسين وسائل الأداء ، أو زيادة الإنتاج فإنه يكون مثمرًا للغاية . ومما يساعد على ذلك وجود القدوة على رأس العمل ، الذى يهيئ الظروف المناسبة للحوار البناء ، من خلال اجتماعات ، تشيع فيها روح الديمقراطية ، وعدم الخوف من التعبير عن مختلف الآراء، وتشجيع أصحاب الأفكار الجديدة والمبادرات .
وهنا لابد من التوقف قليلاً عند كلمة مأثورة فى ثقافتنا العربية تقرر أن (اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية) وهى عبارة جميلة جدًا تتضمن قاعدة ذهبية من قواعد الحوار ، لكننا نلاحظ عدم تطبيقها فى حياتنا اليومية ، ولا فى معاملاتنا مع الآخرين . فنحن نغضب جدا ممن يختلف معنا فى الرأى ، ويسرع المنافقون فيصورونه لنا على أنه عدو يسعى لتدميرنا ، وهكذا يتحول صاحب الرأى المخالف إلى "جبهة أخرى" تستحق التدمير ، بدلاً من أن نواصل الحوار معه بهدف الوصول إلى أرضية مشتركة ، أو نقطة وسط .
ومن التجارب المتكررة التى مرت بى فى هذا المستوى أن صاحب الرأى الآخر أو المختلف قد يخونه التعبير ، فيذكر ألفاظا قد تسىء إلى من يحاوره ، وهنا يتحول الحوار إلى عراك شخصى ، ويبتعد تماما عن الموضوعات التى كانت أساسا للحوار . وهكذا قد تتسبب زلة لسان فى إفساد حوار ، كان من الممكن أن يؤدى إلى نتائج جيدة .
إلى جانب ذلك ، هناك عبارات قد يستخدمها المحاور فتهدّئ من عدوانية الطرف الآخر ، وأحيانًا ما تقوم بتخديره. وقد لاحظت كثيرًا أن بعض الأشخاص كان يحشو حديثه بألفاظ (حضرتك ، سيادتك ، سعادتكم .. إلخ) بينما ينطوى الحديث على الكثير من المغالطات والأخطاء ، ومع ذلك كانت تغتفر له . وهذا هو ما يطلب لى أن أطلق عليه مصطلح "مخدرات الحوار" . وبالطبع فإنها لا تؤثر إلا فى المدمنين على سماح المديح ، أو الذين يفضلون عدم استخدام عقولهم .
وأخيرًا نصل إلى دائرة للحوار أكثر اتساعًا وتنوعًا ، وهى جوار الإنسان مع المجتمع . ولا شك أن هذه الدائرة تشمل حشدًا متنوعًا من أنواع الحوار التى يجريها الإنسان مع أشخاص قد يرغب فى إقامة علاقات معهم ، أو تضعهم الظروف فى طريقه . فمثلاً عندما تسافر فى قطار أو طائرة تجد نفسك بجوار شخص لا مفر من أن تتبادل معه بعض كلمات المجاملة ، التى قد تتحول إلى حوار ينتهى عادة بإنتهاء الرحلة . فى هذا النوع من الحوار عليك أن تستخدم كل ثقافتك التى حصلتها حتى تكون على مستوى الحدث – كما يقولون ، فلا ينبغى أن تبدو أقل من محاورك معرفة أو اطلاعًا . وعليك فى هذه الحالة أن تتقبل منه بعض الآراء التى قد لا تروق لك ، كما أن عليك أن تجعل الحديث عذبًا وتحافظ على استمراره . هنا يتخلل الحوار الكثير من الابتسامات ، وهز الرأس موافقة ، ويكاد ينعدم الخلاف .
لكنك حين تضطر لاستدعاء من يصلح لك الثلاجة أو التليفزيون فى المنزل ، عليك أن تجرى حوارًا من نوع آخر تمامًا . فأنت تريد تحقيق مصلحتك بأقل مبلغ ممكن ، والطرف الآخر يبالغ فى حجم الإصلاح ، وبالتالى يزيد الأجر . وهنا يدور حوار قد تعلو نبراته وتهبط ، وتستخدم فيه وسائل متعددة منها التهديد بالتعامل مع عامل آخر ومنها الإغراء باستمرار التعامل معه فى المستقبل ، ومنها الاستعطاف والاسترضاء حتى يصل الحوار إلى الهدف المطلوب ، وهو تحقيق مصلحة كلا الطرفين .
وهكذا فإن دائرة حوار الفرد مع المجتمع تتسع وتتنوع لتشمل أحيانًا حوارًا مع تلميذ فى مدرسة ، أو طالب فى جامعة ، أو عامل فى مصنع ، أو فلاح فى حقل ، أو شخص على مقهى ، أو بائع فى محل ، أو شرطى فى مخفر .. وكما يتضمن حوارًا هادئًا ومعقولاً فإنه قد يشمل حوارًا صاخبًا ومتهورًا . وهنا ينبغى على الإنسان أن يكون على وعى بمستويات الثقافة الموجودة فى المجتمع ، وأن يجيد التعامل مع كل منها دون استعلاء عليها ، أو تفريط لحقوقه فيها . ولا شك أن إجراء الحوار مع كل من هذه الأطراف المتنوعة يتطلب لغة خاصة ، وأسلوبًا فى الإقناع يتناسب مع صاحبه . وهو يثبت أننا لم نعد أمام "حوار" واحد ، وإنما أمام "حوارات" متعددة . وهذا يقودنا إلى الحديث عن أنواع الحوار .
أنواع الحوار :
للحوار أنواع كثيرة ، تختلف باختلاف المنظور إليها ، فهناك أنواع للحوار من حيث شكله ، وأنواع أخرى من حيث طابعه ، وأنواع ثالثة من حيث نتائجه ، وفيما يلى كلمة مختصرة عن كل نوع منها تبعًا للمنظور الخاص بها :
أ-الحوار من حيث شكله :
هناك نوعان أساسيان هما الحوار الشفهى ، والحوار المكتوب . ومن الواضح أن الأول منهما هو المستخدم فى سائر شئون الحياة اليومية ، وهو يتميز بالحيوية والسرعة ، ويهدف إلى تحقيق المصالح العاجلة ، مستخدمًا الحجج الخطابية والعاطفية إلى جانب القليل من الحجج العقلية .
أما الحوار المكتوب فيمكن وصفه بأنه حوار العقل والمنطق ، وهو يمتلئ بالحجج البرهانية والجدلية ، ولأنه لا يسعى لتحقيق مصالح عاجلة أو قريبة فإنه يتصف بالطول ، وبقدر من البرود ، لأنه يناقش أفكارًا ، واللجوء فيه إلى العاطفة أو الانفعال يعد أمرًا معيبًا . كذلك فإن التجريح الشخصى يهبط بقيمته ، ويخرجه عن المستوى اللائق به .
وللحوار المكتوب أصول يجب الالتزام بها ، وآداب ينبغى مراعاتها . فمن ذلك مثلاً : الأمانة فى عرض وجهة النظر الأخرى ، وتحديد نقاط الخلاف الرئيسية ، والرد على كل منها بموضوعية ، وتوثيق المعلومات الواردة بقدر الإمكان ، مع بيان الأساس أو الأسس التى يستند إليها الرد والمردود عليه ، وفى كل ذلك ينبغى إظهار الاحترام اللائق لصاحب الرأى الآخر ، والابتعاد تمامًا عن الإساءة إليه أو الاستهزاء به، حتى ولو كانت آراؤه ضعيفة ، وحججه متهافتة .
وفى ثقافتنا العربية صفحات كثيرة ورائعة تعد نماذج جيدة على الالتزام الكامل بأصول الحوار وآدابه . ويكفى أن لدينا علمًا خاصًا بذلك ، هو "علم آداب البحث والمناظرة" . لكننا نعثر أيضًا على مناظرات تمثل أنواعًا من الحوار ، الذى لم يتحقق فيه هذا الالتزام ، أو تحقق بدرجات متفاوتة ، وجرى فيه تجريح الخصوم ووصفهم بالكفر والفسق والفجور ، كما تم تشبيههم أحيانًا بالخنازير والكلاب !
ب-الحوار من حيث طابعه :
توجد ثلاثة أنواع من الحوار ، أولها الحوار الهادئ الحميم الذى يدور عادة بين أطراف متفقة سلفًا فى الرأى والتوجهات . وهذا الحوار على الرغم من أوصافه التى تحظى من الجميع بالقبول والرضا ، إلا أنه قد يتحول بالتدريج إلى نوع من الحوار مع النفس ، أى حوار من طرف واحد ، لا يوجد فيه سوى رأى واحد ، يُوافق عليه المتحاوران .
وثانيها الحوار الموضوعى الذى يدور عادة بين أطراف مختلفة فى الرأى ، يعرض كل منهم وجهة نظره ، مدعمًا إياها بالأدلة ، وموضحًا بالأمثلة ، لإقناع الأطراف الأخرى ، ثم يقوم غيره بعرض ما لديه ، وهكذا يسير الحوار بنظام وموضوعية ، مع إتاحة الفرصة للتعقيبات ، وإعطاء كل واحد من المتحاورين الوقت المناسب والمحدد له ، حتى يتبلور فى النهاية رأى صحيح ، ويحظى بإجماع الحاضرين أو بأغلبية الأصوات .
فى مثل هذا النوع من الحوار ، ينبغى أن تنصب المناقشات حول الأفكار ، وليس الأشخاص ، حول أسلوب العمل وليس القائمين عليه ، حول قيمة النتائج والوصول إلى أفضل عائد منها ، ومن المفترض أن يبدأ الحوار ويتطور فى وجود مجموعة من الحقائق المعلنة أمام الجميع ، وأن يستعان فى ذلك بالأرقام الموثقة والرسوم البيانية الصحيحة .
أما النوع الثالث من الحوار ، فهو الحوار المتشنج ، وهو الذى يدور عادة بين أطراف مختلفة سلفا ، لا يسمح كل منها بقبول أى رأى من الطرف الآخر ، بل إنه يسعى بكل الوسائل لإسكاته ، أو التشويش عليه ، إما برفع الصوت ، أو بتحريك الأيدى ، أو حتى بالتهديد بالضرب . وأحيانا ما يحدث من أحد الأطراف انسحابه من جلسة الحوار لواحد من سببين : إما لكى لا يتيح أى فرصة للطرف المخالف له للتعبير عن رأيه ، حتى لا يعرف وينتشر ، وإما لحرصه على أن يفوز هو نفسه فى الحوار ، حتى ولو كان رأيه ضعيفا ، وأدلته متهاوية . فى مثل هذا النوع من الحوار يسود التعصب ، وضيق الأفق ، وتغلى النفوس بالغضب ، ويسعى المحاور أو المحاورون من جبهة واحدة إلى ضرورة القضاء المبرم على خصومهم . ولا شك أن هذا الجو لا يسمح للحقيقة أن تظهر ، ولا للآراء الصائبة أن تعبر عن نفسها ، وبالتالى تفشل عن تحقيق الأهداف المرجوة منها .
ج- الحوار من حيث نتائجه :
هناك ثلاثة أنواع ، أولها الحوار العقيم ، الذى يدور أساسا حول مشكلة زائفة ، أى مشكلة من اختراع شخص أو أشخاص تكون لهم مصلحة خاصة فى شغل الناس عن مصالحهم الحقيقة . ومن ذلك مثلا الحديث عن مشكلة شاب يقتل والديه (حالة فردية) وإهمال مشكلة قتلى المواصلات العامة على الطرق (ويصل عددهم إلى عدة آلاف سنويا) ، أو مشكلة الدروس الخصوصية (حالة عارضة) وإهمال مشكلة كيفية الارتقاء بمستوى التعليم (ظاهرة أساسية) ، ومشكلة الغزو الثقافى (مفتعلة) وإهمال مشكلة ضعف الترجمة (وهى سبب رئيسى فى ركود الحركة الثقافية) . ومما هو ملاحظ أن الحوار حول مشكلة زائفة يكبر ويتعاظم لكنه يظل يدور فى حلقات مفرغة ، لأنه ببساطة لا يعالج مشكلة حقيقية ، أى عقبة تقف فى سبيل الفكر والسلوك الإنسانى .
وفى مثل هذا النوع من الحوار ، يقوم المحاور باستعراض عضلاته الثقافية إن صح التعبير ، وكثيرًا ما يبتعد عن الموضوع ، محلقًا فى آفاق أخرى بعيدة ، ومتحدثًا عن مجتمعات أخرى مختلفة ، وتجارب لا تمت للواقع بصلة .. ولو تأمل القارئ حديثه جيدًا ، بل لو تأمل هو نفسه حديثه لأدرك أنه لا يقدم شيئا ذا فائدة ، والسبب بسيط للغاية، لأنه يضيع وقته وجهده فى محاولة حل لغز من صنع عقله ، وليست له علاقة بالواقع.
وعلى العكس تمامًا من هذا الحوار العقيم ، يوجد الحوار المنتج أى الذى يتناول مشكلة حقيقية ، ويكون الهدف منه الوصول إلى حل محدد لها . فى هذا النوع من الحوار ، يجرى إلقاء الضوء على نشأة المشكلة ، وتطورها ، وأهم مظاهرها ، ومدى خطورتها ، تمهيدًا لاقتراح الحل أو الحلول المناسبة لها . وقد قال أسلافنا بحق إن "تحديد المشكلة يعد جزءًا من حلها" ، لكن ذلك لا يحدث إلا إذا اشترك فى مناقشتها عدد من المحاورين ، الذين تدفعهم الرغبة الصادقة فى التوصل إلى الحلول ، من خلال حوار يكشف مختلف جوانب المشكلة ، فى لغة دقيقة وواضحة ، وباستخدام مصطلحات محررة من الفوضى والغموض . إن المحاورين فى مثل هذا العمل يكونون أشبه بالبنائين ، الذين يعرف كل منهم دوره فى تشييد البناية المتكاملة . ولا شك أن حوارًا كهذا لابد أن يخلو من الاستطراد والمهاترة ، وأن يجرى فى جو من الجدية والاحترام ، حتى يصل إلى هدفه بكل سلاسة ويسر .
وإلى جانب كل من النوعين السابقين ، يوجد نوع ثالث من الحوار ، يمكن أن نطلق عليه حوار الاستكشاف ، وهو الذى يسعى إلى تحديد المشكلة ، وليس بالضرورة التوصل إلى حل لها ، وذلك عندما تكون تلك المشكلة من الصعوبة والتعقيد والتشابك مع غيرها من المشكلات الأخرى .. حينئذ يتم حوار لمحاولة تفكيك المشكلة المعقدة إلى عناصرها البسيطة ، وبيان علاقات التداخل والاتصال بينها وبين المشكلات الأخرى المرتبطة بها . ولنأخذ مثالاً على ذلك : مشكلة الإسكان، التى ترتبط بمشكلة العمل ، ومشكلة البطالة ، ومشكلة التضخم ، ومشكلة الزواج .. الخ . ومن الواضح أن مثل هذا النوع من الحوار لا يتطلب فقط مجموعة متحاورين ، بل مجموعات من سائر التخصصات ، تكرس كل واحدة جهودها حول نقطة محددة ، ثم يتبادل الجميع ما توصل إليه كل منهم .
ولا شك أن هذا الحوار يحتاج إلى إعداد جيد مسبقًا ، وإلى إدارة حكيمة وحازمة ، حتى تستطيع أن تنسق بين تلك "الحوارات" ، وأن تجمع بينها أخيرًا فى منظومة واحدة . وهنا لا يوجد مجال للمزايدة أو استعراض العضلات ، وإنما المطلوب هو الاختصار والتحديد وبلورة المفاهيم وتحديد العلاقات فى صيغ شبه رياضية ، حتى تكون أساسًا جيدًا للتعامل معها والإفادة من معطياتها .
شروط الحوار المنتج :
إن النتائج لا تأتى من فراغ ، فإذا كنا نطمح إلى أن تكون حواراتنا منتجة ، بمعنى أن تضعنا على طريق الفعل ، فلا بد أن نتتبع نماذجها الجيدة ، وأن نفحص أسباب نجاحها ، كما ينبغى أن نرصد بكل دقة الشروط التى تساعد على هذا النجاح . ويمكن أن نسجل هنا أهم هذه الشروط فيما يلى :
1-توافر مرجعية يعترف بها كل من المتحاورين . وهذه المرجعية قد تكون قوانين العقل ، أو مبادئ الدين ، أو سلطة التقاليد ، أو تحقيق المصلحة .
2-وجود حكم يلتزم كل من المتحاورين بطاعة أوامره وتنفيذ ملاحظاته . ومن المعروف أن هذا الحكم هو الذى يقوم بدور التنظيم والفصل فى أثناء المحاوره ، وله الحق فى إنهائها عندما تحيد عن أهدافها .
3-إعطاء الفرص المتكافئة لكل الأطراف ، سواء فى الوقت المحدد للحديث ، أو فى إبداء الملاحظات والتعقيب .
4-استغلال المحاور للوقت المخصص له ، وعدم إضاعته فى مقدمات غير ضرورية ، أو استطراد غير مطلوب ، وأن يتميز حديثه بالتركيز ، وترتيب المعلومات ، والتصريح بالنتيجة التى يريد الوصول إليها .
5-ضرورة الإصغاء الكامل عندما يتحدث الطرف الآخر ، وعدم ملاحقته بالموافقة ، أو مقاطعته بالمخالفة . وهذا يعنى تسجيل الملاحظات عليه ، وإبداءها عندما تعطى له الكلمة .
6-احترام شخص المحاور ، وعدم الإساءة إليه بألفاظ أو عبارات غير لائقة ، وكذلك عدم الاستهزاء به حتى ولو بالتلميحات والنظرات !
7-أن يكون لدى أطراف الحوار الاستعداد لسماع وجهات النظر الأخرى ، والاعتراف بالحق عند ظهوره . ولا شك أن هذا الشرط يتطلب "شجاعة أدبية" ينبغى أن تكون من أخلاقيات المحاور الحقيقى .
فإذا أردنا بعد ذلك أن نتعرف على عناصر القوة وعوامل الضعف فى الحوار ، أمكننا خلال استعراض عشرات – ولا نقول مئات الحوارات – أن نستخلص أهم هذه العناصر والعوامل :
عناصر القوة فى الحوار :
1-الإلمام الجيد بجوانب المشكلة التى يدور الحوار حولها (نشأتها ، تطورها، مظاهرها ، مدى خطورتها) .
2-يمكن للاستشهاد بالنصوص الدينية ، عندما يتعلق موضوع الحوار بذلك ، أن يكون من أهم العناصر التى تقوى جانب المحاور ، وتضعف من موقف المحاور الآخر .
3-استخدام المعلومات التاريخية ، بشرط الدقة فى إبرازها ، وأن تكون فى موضعها تماما ، أى أن يكون توظيفها من أجل تأكيد معلومة معينة ، أو دحض معلومة أخرى لدى المحاور الآخر .
4-الاستعانة بلغة الأرقام مما يضفى الكثير من المصداقية على حديث المحاور . وهنا أيضا لابد من التأكد من مصدرها ، حتى لا ينهدم بناء المحاور ، إذا ثبت عدم صحة رقم واحد مما استعان به .
5-تطعيم الحديث بالحجج المنطقية ، التى تتمثل أهميتها فى سهولة تصديقها من المتابعين للحوار . وكلما اسخدمها المحاور بوضوح كانت أقوى تأثيرا .
6-استمداد الأمثلة من الحياة الواقعية ، لشرح وتفسير الحقائق العلمية والنظريات ، حتى يكون الحوار حيا ، وقريبا من أذهان المتابعين .
7-استخدام اللغة المقنعة ، وأعنى بها اللغة التى تسم بالدقة والوضوح ، مع الابتعاد عن الأساليب القديمة ، والكليشيهات التى فقدت طزاجتها من كثرة الاستعمال .
8-إجادة طرح الأسئلة والتساؤلات ، فهى تعتبر دائما وسيلة من وسائل الهجوم ، حتى لانتاج للمحاور الآخر فرصة طرحها .
9-عدم إهمال الإجابة على أى سؤال يطرحه المحاور الآخر ، لكن لا تبقى ثغرات مفتوحة فى الحوار .
10-وأخيرا كلما توافر لدى المحاور معلومات كافية عمن يحاوره كان فى موقع أفضل، ولا يعنى هذا استخدام معلومات شخصية ضده أثناء المحاورة ، وإنما الإشارة عند اللزوم لبعض أفكاره التى سبق أن أعلنها من قبل .
مظاهر الضعف فى الحوار :
1-الظهور بمظهر التردد والنسيان .
2-محاولة تذكر المعلومات ، أو الأسماء ، أو الأرقام ما يؤدى إلى إملال المتابعين للحوار .
3-الخروج عن موضوع المحاضرة ، بكثرة الاستطراد .
4-حشو الحديث باللوازم الشخصية كالقَسَم ، أو ألفاظ التفخيم (حضرتك ، سيادتك .. إلخ) .
5-مقاطعة المحاور الآخر أو التشويش عليه أثناء حديثه .
6-تعمد الإساءة الشخصية للمحاور الآخر .
7-الانفعال والتلويح بالأيدى فى وجه المحاور الآخر .